بقلم: شيماء الحديدي
منبع: New Lines Magazine
المصدر: مرکز یارا
لقد مرت تسع سنوات منذ تلك اللحظة التي تغير فيها كل شيء في حياتي. توقف قلبي عندما رأيت ضباط الشرطة يقفون أمام البوابة الرئيسية لجامعتي، ويشيرون إلى الجزء الخلفي من شاحنة ويقولون: “ادخلي”.
وقفت مصدومةً مشلولةً من الفكرة: يا إلهي.. إنهم يعتقلونني. كانوا يقومون بدفعي قبل أن أتمكن من استيعاب ما يجري. لا أتذكر أنني قلت أي شيء قبل تلك اللحظة. لقد شعرت بالرعب الشديد لدرجة أنني نظرت بيأس وبعينين مليئتين بالدموع إلى ضباط أمن الجامعة. توسلت إليهم بنظرتي: إنني أعرفكم و أستطيع التعامل معكم. خذوني إلى غرفتكم، وقوموا باستجوابي هناك وهددوني بأي شيء .. أنا لا أعرف هؤلاء الأشخاص ولا أعلم إلى أين سيأخذونني أو ماذا سيفعلون بي؛ خذوني أنتم، وليس هم. كنت أعلم أن مناشداتي الصامتة ستفشل؛ عندما قاموا بدفعي نحو ضباط الشرطة والشاحنة وبدأت تتضح لي حقيقة ما كان يحدث.
صرخت بأعلى صوت ممكن، على أمل أن تجد كلماتي شخصًا ما. كانت عيناي ممتلئة بالدموع لدرجة أنني لم أتمكن من الرؤية بوضوح، لكنني ظللت أصرخ: “اسمي شيماء الحديدي. أنا طالبة في السنة الثانية قسم الإعلام. إذا حدث لي شيء سيء، فأنتم تعرفون من المسؤول عن ذلك”. أشرت إلى ضباط الشرطة الذين كانوا ينتظرونني. كررت هذه العبارة ثلاث أو أربع مرات، ثم توقفت عندما رأيت أخيرًا طالبًا يقف على بعد مسافة قريبة. التقت أعيننا وتوقفت عن البكاء. حفظت وجه ذلك الزميل المجهول في ذاكرتي، معتقدةً أنه سيكون آخر وجه ودود قد أراه في حياتي. كانت إيماءته التي أظهرت أنه سمعني كافية لتجعلني أهدأ وأصعد إلى سيارة الشرطة. كنت على يقين أن عائلتي ستعرف ما حدث لي وأنني لن أختفي في نظام السجون دون أي سجل رسمي لاعتقالي. لقد سمعنا عن أشخاص يختفون دون أثر بسبب النشاط السياسي منذ صيف 2013. لن أكون واحدةً منهم/ن على الأقل.
تم اعتقالي في 2 ديسمبر 2013، وتم احتجازي لمدة أربعة أيام ثم تم إطلاق سراحي، ولا أزال أعاني من ذكريات رهيبة. ومع ذلك فإنني أعتبر نفسي محظوظةً. أنا حرة، على عكس مئات المصريين/ات الذين/اللواتي تم القبض عليهم/ن في نفس الوقت تقريبًا ولم يتم إطلاق سراحهم/ن مطلقًا. لقد حُرموا/ن من حياتهم/ن الطبيعية ويتعرضون/يتعرضن للتعذيب والحرمان والأذى الجسدي والنفسي على أيدي نظام سجون غير إنساني.
أخذ ضباط الشرطة هاتفي ووضعوني في قفص فولاذي لمدة 30 دقيقة تقريبًا قبل أن يرافقوني إلى مكتب رئيس المحققين. “جريمتي” هي أنني شاركت في احتجاجات تطالب بالإفراج عن الطلاب/الطالبات الآخرين/الأخريات الذين/اللواتي سُجِنوا/سُجِنَّ بسبب نشاطهم/ن السياسي. هددني رئيس المحققين مباشرة بقوله إنني سأتلقى “معاملة خاصة” في السجن. كما نقل لي تهديد رئيس الجامعة بتلقيني درساً لكي أوقف نشاطي وأكون عبرة للطلاب/الطالبات الآخرين/الأخريات الذين/اللواتي يعبرون/يعبرن عن آرائهم/ن.
قضيت أيامي في السجن أنام على أرضية متعفنة، الغرفة فارغة إلا من الظلام والرائحة الكريهة والحشرات والرطوبة والجدران العفنة. كانت أسوأ ليلة هي الأولى؛ كنت أحاول تهدئة نفسي، معتقدةً أنني كنت أحاول فعل بعض الخير لزميلاتي المسجونات، وأانه الآن وبالتاكيد سيطالب شخص ما بإطلاق سراحي.
لم أتمكن من التكيف مع هذه الغرفة الفارغة حتى جاء احد الحراس، حوالي منتصف الليل، وطلبوا مني وسجينةً أُخرى الذهاب معه إلى مكان جديد. نمت بقية تلك الليلة الفظيعة على أرضية الحمام. حمام سجن تستخدمه عشرات السجينات يومياً دون تنظيف أو صيانة، وهنا وضعت رأسي على أرضية مبللة بنفايات السجينات وشاهدت الحشرات تزحف حولها والديدان على الحائط.
لقد شعرت بالرعب من التعرض للتحرش أو الاغتصاب. هذا هو الشيء الوحيد الذي فهمته عن تهديد “المعاملة الخاصة” – لقد كان تهديدًا غامضًا ومخيفًا. لم أرغب في مواجهة ما واجهته بعض السجينات الأخريات. قضيت طوال النهار والليل مرتديةً كل ملابسي، خائفةً من الحراس الذين يختلسون النظر عبر النافذة أو يفتحون باب الزنزانة فجأة. كانت اللحظة الأكثر إثارة للخوف كل يوم هي عندما أذهب إلى الحمام: أولاً، كنت أستمع إلى الأصوات خارج الزنزانة للتأكد من عدم وجود حراس يختلسون النظر، وبعد ذلك كنت أهرع خلال العملية، وأمسك الباب بيد واحدة. وملابسي باليد الأخرى. لم أستحم خلال الأيام الأربعة التي كنت أنام فيها على الأرضيات الفاسدة؛ ولم أستخدم سوى صنبور قريب من الأرض لغسل يدي والوضوء.
تغير وضعي أخيرًا بعد أربعة أيام، عندما أصبح مصيري معروفًا. لقد أثار سجني كشابة تدرس في الجامعة في مدينة محافظة غضب الطلاب/الطالبات وتظاهروا/ن أكثر من مرة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها أن كوني امرأة يمنحني ميزة. وكما تم اعتقالي، عدت إلى الحياة التي كنت أعرفها بسرعة ايضا.
خلال فترة وجودي القصيرة في السجن، ذهبت من وإلى مكتب المدعي العام أربع مرات، وتمت مرافقتي عبر الشوارع بأصفاد معدنية. لقد تم تهديدي مرة أخرى، عندما كنت في مكتب رئيس المحققين، بقضاء 20 أو 25 عامًا في الزنزانة، بعيدًا عن عائلتي وأصدقائي والعالم الذي عرفته. أعتقد أنني كنت الشابة الوحيدة في السجن بأكمله. أتذكر أول مرة دخلت فيها مبنى النيابة مكبلة اليدين ومعي ضابط. كان جميع السجناء/السجينات الذين/اللواتي ينتظرون/ينتظرن قضاياهم/ن يحدقون/ن بي وهم/ن يدخنون/ن سجائرهم/ن.
كنت أرتدي النقاب في ذلك الوقت، وهو غطاء الوجه المفضل لدى بعض النساء المسلمات، وطلب مني الضباط خلعه لالتقاط بعض الصور قبل إطلاق سراحي. وعندما طلبت أن أكون مع المصور فقط لأنني كنت أرتديه لأسباب دينية، رفضوا وطلبوا مني الانصياع لتعليماتهم بصمت إذا أردت منهم استكمال إجراءات الإفراج.
عندما فتح الضابط الأصفاد المعدنية في يدي، ركضت على الفور نحو أصدقائي وعائلتي. صرختُ. رقصتُ. لقد عانقتُ الجميع وكأنني لم أرهم منذ الأبد.
تحطمت فرحتي بسبب صوت تحطم الزجاج، عندما وصل أتباع مأجورون ليسوا من منطقتنا المحلية إلى منزلي، وقاموا بإلقاء الحجارة عبر نوافذنا. كما وصل العشرات من ضباط الشرطة بعد وقت قصير من مغادرتنا السجن واعتقلوا والدي وأخي الأكبر أحمد وابن عمي المحامي. رأيت أمي وقد أُغمي عليها في ذلك اليوم، وشاهدت عائلتي لأسابيع تدخل وتخرج من المحاكم بأصفاد معدنية، حيث تقوم الدولة الآن باستهداف عائلتي.
كما وصلني خبر منعي من دخول جامعتي لمدة شهر. لقد تم اتخاذ هذا القرار بينما كنت داخل السجن، وكنت آخر من علم به. وفي الأسابيع التالية، أُطلق سراح عائلتي. لكنني شهدت كيف تم طرد أحمد من وظيفته في شركة هندسية، لمجرد أنه كان مسجونًا. لقد تم طردي في النهاية من جامعتي ومُنعت من تقديم الامتحانات لمدة فصل دراسي كامل. لقد تلقيت المزيد من الأخبار المريرة. وبعد أقل من شهرين من إطلاق سراحي، أُعيدَ فتح القضية. وعلمت أنني كنت موضع تحقيق آخر مع 17 طالبًا/ة آخرين/أخريات، تم اعتقال معظمهم/ن في الجامعة أثناء وجودي في السجن.
عشت لأسابيع في خوف دائم من الاعتقال وتجنب الأمن المصري. بقيت مع أقارب وأصدقاء مختلفين، وفقدت تمامًا إحساسي بالاستقرار. حصل والدي على بعض المال واشترى شقة في محافظة أخرى. عشت هناك لمدة تسعة أشهر لأحصل على بعض راحة البال، ودفعت ثمن الانفصال عن حياتي بأكملها – والدتي وإخوتي وعائلتي وأصدقائي وجامعتي وزملائي. لكن على الأقل كان بإمكاني رؤية السماء وشم الهواء النقي ومشاهدة الناس من الشرفة. أقنعت والدي القلق بالسماح لي بالسير على طول ساحل المدينة الرائع للهروب من ضغوط العزلة التي كانت تسبب الاكتئاب والأفكار الانتحارية.
تم اعتقال مئات الطلاب/الطالبات الآخرين/الأخريات بسبب تعبيرهم/ن عن آرائهم/ن السياسية بعد الانقلاب في يوليو 2013.
في المظاهرة الأخيرة التي شاركت فيها في وقت لاحق من ذلك العام، كنت أطالب بحرية زملائنا/زميلاتنا، وأحمل لافتة عليها صورة عادل، أحد المعتقلين الذي سيمضي العشرينيات من عمره بين أربعة جدران. (عادل هو اسم مستعار لصديق لا يزال في السجن، وتم حجب هويته لحمايته وعائلته من انتقام الحكومة). كان من الممكن أن أكون مثله بسهولة.
على الرغم مما مررت به عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، عندما أنظر إلى السنوات التسع الماضية، أعتبر نفسي محظوظةً لأنني حرة. لقد تحملت تسعة أشهر من المشقة الطويلة قبل أن أغادر مصر. حُكم عليّ بالسجن لمدة ست سنوات: السجن لمدة عامين وغرامة في القضية الأولى، والحكم لمدة أربع سنوات في الثانية. لكن بحلول نهاية عام 2014، كنت مخطوبة لصديق أحبه، وتمكنت من الفرار من مصر لأن سلطة المطار لم تكن على علم بالعقوبات الصادرة بحقي بعد. استقليت طائرة لأول مرة في حياتي ووصلت إلى السودان حيث تزوجنا. على الرغم من أنه كان حفل زفاف بدون أمي أو إخوتي أو أقاربي أو أصدقائي، إلا أنني ارتديت فستانًا أبيضاً على الأقل.
ولم تغب عن ذهني حقيقة أنني عندما كنت أفر من مصر، كان عادل يجلس في زنزانة مع عشرات السجناء الآخرين دون مساحة كافية لوضع رأسه على الأرض للنوم. في السنوات التسع الماضية، نادرًا ما رأى عادل الشمس، ناهيك عن الطيران أو الوقوع في الحب. ولم تتح له أي مناسبة للاحتفال أو الرقص في حفل زفاف. ربما لا يعرف أيًا من الأغاني التي تم إصدارها في السنوات التسع الماضية. ولستُ متأكدةً مما إذا كان قد سمع أن اثنين من زملائه في الجامعة سيتزوجان في الخارج.
لم أكن لأتعلم كيفية التعامل مع التحديات مثل القيام بالأعمال المنزلية في دولة تفتقر حتى إلى أبسط البنية التحتية لو كنت لا أزال خلف القضبان. لقد اكتشفت كيفية البقاء على قيد الحياة لمدة 12 ساعة بدون الماء والكهرباء يوميًا، وكيفية نقل المياه إلى الطابق الثالث من بئر أسفل منزلنا، وكيفية طهي الطعام في الحرارة الشديدة. رغم أن تجربتي لم تكن سهلة، إلا أنها كانت أفضل من نوم عادل على الأرض طوال تسع سنوات. كان لدي رفاهية الشكوى من عدم وجود مكيف هواء أو مروحة.
لو كنت لا أزال في السجن، لما تمكنت من معرفة المزيد عن الصحافة والتحرير. لم تكن لتتاح لي الفرصة للعمل في وظيفتين، مع نوبات صباحية ومسائية عبر الإنترنت، مما يوفر المال للتنقل وإكمال تعليمي.
لو كنت لا أزال في السجن، لما حاولت مرات عديدة الحصول على تأشيرة للذهاب إلى تركيا، ثم أعود خالية الوفاض. (وكان ذلك بسبب الضوابط الصارمة التي تطبقها السفارة التركية في السودان فيما يتعلق بتأشيرات المصريين، كما أخبرنا موظفو السفارة). وبالمثل، لو كنت لا أزال سجينة، لما سافرت إلى شمال قبرص للتقدم إلى إحدى الجامعات والحصول على وثائق الإقامة للحصول على تأشيرة تركية، بينما أعمل في وظائفي عن بعد.
لم أكن لأقوم بكل هذه المحاولات الفاشلة للحصول على تأشيرة للسفر إلى تركيا لو كنت لا أزال خلف القضبان. (أبلغنا موظفو السفارة التركية في السودان أن ذلك كان بسبب السياسات الصارمة فيما يتعلق بالتأشيرات المصرية). وبالمثل، لم أكن لأقوم بالرحلة إلى شمال قبرص للتقدم للجامعات والحصول على أوراق الإقامة للتأشيرة التركية أثناء قيامي بعملي عن بعد، إذا كنت لا أزال مسجونةً.
كنت أوفر حظًا من عادل وأكثر من 2500 طالب آخر كانوا في السجن عام 2018. في تركيا، كان بإمكاني أن أبدأ العمل في مكتب في مؤسسة ناطقة باللغة العربية، وتعلم القليل من اللغة التركية للمساعدة في إنجاز المهام الأساسية للحياة في بلد أجنبي ولمس الثلوج لأول مرة. يمكنني أيضًا البحث عن جامعة لإنهاء دراستي إلى جانب وظيفتي المكتبية. لو كنت مكان عادل، لما تحدثت باللغة الإنجليزية لأول مرة في حياتي وأنا أحاول شرح الفراعنة ومصر القديمة لزملائي الجدد. على الرغم من كل عبء العمل والضغوط، كان عمري 22 عامًا فقط وشعرت أن حياتي تتقدم على المستوى المهني والأكاديمي. في هذه الأثناء، كان عادل لا يزال يكافح من أجل الحصول على إذن لإكمال دراسته في السجن.
ظل عادل داخل هذا السجن المزدحم طوال السنوات التسع الماضية، يتناول طعامًا سيئًا مرة واحدة يوميًا ولا يتمتع بأي خصوصية. درس العلوم الفيزيائية وحفظ القرآن الكريم. وكان يأمل أن يدرس للحصول على درجة الماجستير، لكن الجامعات لم تقبل طالباً مسجوناً. أمضى عادل بقية هذه السنوات محدقًا في جدران زنزانته بينما كنت حرةً، أرى العالم.
خلال السنوات الخمس الأولى من سجن عادل، كانت والدته تزوره مرة واحدة في الأسبوع. واضطرت للسفر لساعات إلى سجن أبو زعبل، حيث تعرضت للتفتيش والإذلال ولم تتمكن بعد ذلك من رؤيته إلا لبضع دقائق من خلف الشاشة. وقال عادل إنه تعرض للتعذيب وسوء المعاملة، لكنه لم يشارك إلا القليل لتجنب إثارة قلق أسرته. واستمرت نفس المعاملة عندما تم نقله إلى سجن طرة ليمان. وكانت عائلته ممتنة لوضعه على الرغم من كل هذه المآسي.
“هناك العديد من السجناء/السجينات الآخرين/الأخريات الذين/اللواتي لم يتمكنوا/يتمكن من إكمال دراستهم/ن أو ليس لديهم/ن من يعيل أسرهم/ن مالياً. قال شقيق عادل: “إن حالتهم/ن أكثر تعقيداً وأكثر مأساوية من حالة عادل”.
في سبتمبر 2018، كنت أعاني بسبب قرار الانفصال عن شريك حياتي. لقد كنت مطلقة وبائسة. لقد سألت الله كثيرًا عن الهدف من الحياة، المليئة بالصراعات، وأردت لها أن تنتهي. لكن بصراحة، أنا ممتنة لله الذي ساعدني على تحمل هذه المشاعر، التي علمتني الكثير وأثرت على ما أنا عليه الآن. وبينما كنت أفكر في خيبة أملي وأتمنى الموت، كان عادل يشعر بخيبة أمل أكبر لكنه لم يتمنى الموت. كان يفكر كثيراً في الارتباط والخطوبة من خلال عائلته، لكنه لم يكن يريد تدمير حياة شخص آخر، خاصة بعد ما حدث له.
وفي ذلك الشهر أيضًا، تلقى عادل حكمًا بالإعدام مع أكثر من 70 آخرين، في قضية عرفت باسم “فض اعتصام رابعة” (رابعة العدوية هي الساحة التي تم فيها القبض على عادل مع مئات المتظاهرين/ات الآخرين/الأخريات الذين/اللواتي قاموا/قمن بالاحتجاج على الانقلاب حيث قتلت قوات الأمن المصرية أكثر من 800 شخص في 14 أغسطس 2013، وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش).
لا أستطيع أن أتخيل مشاعر عادل خلال تلك الفترة، أو مشاعر أهله الذين لم يتمكنوا من زيارته منذ أشهر. تغيرت قواعد الزيارة العائلية بعد الحكم عليه بالإعدام؛ تم نقله إلى سجن جمصة ووضعه في الحبس الانفرادي وهو يرتدي ملابس الإعدام الحمراء. وفوق كل شيء، كانت زنزانته خلف زنزانات الإعدام وغرف التعذيب. وكان يسمع كل ليلة صراخ المعتقلين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب أو الإعدام. عاش عادل في زنزانة انفرادية لمدة ثلاث سنوات. وخلال هذه الفترة، سُمح لعائلته بزيارته مرة واحدة في الشهر. وكانت حالته الصحية والعقلية تسوء في كل مرة، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنه لم يعد يأكل أو يشرب بسبب تجاربه المؤلمة في الحبس الانفرادي. مع ظهور جائحة كوفيد، مُنعت الأسرة من الزيارة مرة أخرى. وحتى بعد استئناف الزيارات، لم يتمكنوا من رؤيته. تم نقل عادل إلى المستشفى وعاش على المحلول الدوائي لفترة. ولم تعلم عائلته بذلك إلا عندما تم تخفيف الحكم الصادر بحقه إلى السجن المؤبد بدلاً من عقوبة الإعدام.
في هذه الأثناء، واجهت صراعًا إضافيًا لتجديد جواز سفري المصري منتهي الصلاحية باعتباري سجينةً وصحفيةً سابقةً في المنفى. ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود العديدة التي بذلتها على مدار ما يقرب من عامين، والتي تركتني بلا هوية وأواجه خطر الترحيل والسجن لاحقًا في بلدي الأصلي، فقد تعلمت كيف أكون حازمة وغير قابلة للكسر. إذا نظرنا إلى الوراء، فأنا ممتنة لهذه التحديات وحظي السعيد. لقد أنهيت دراستي في الصحافة وأتيحت لي فرص لتحسين سيرتي الذاتية مقارنة بزملائي/زميلاتي من خلال العمل في حوالي 10 أماكن عمل مختلفة والحصول على أكثر من 25 دورة متخصصة.
بالمال الذي كسبته من العمل، اشتريت دراجة وسيارة. تعلمت السباحة والكيك بوكسينغ. حاولت تربية كلب جولدن ريتريفر وقطة صغيرة لمساعدتي في الشعور بالوحدة بعد الطلاق. أعطيت الكلب اسم “باسط” والذي يترجم إلى “بسيط” منذ أن بدأت أشعر بالخوف. أدركت أنني مدمنة على العمل وغير قادرة على الاعتناء بأحد. لقد قمت بتغيير خزانة ملابسي بالكامل حوالي تسع مرات وقمت بقص شعري خمس مرات، إحداها قصة صبي. كما قمت بزيارة ثلاثة بلدان أخرى؛ لقد جربت التجديف والغوص والقفز بالمظلات والتزلج وركوب التلفريك وركوب الخيل. لقد جربت طعم السوشي والأخطبوط بالإضافة إلى المأكولات المغربية والهندية والإيرانية. لقد تغيرت أفكاري ومناجاتي الداخلية بطريقة جعلتني أشعر وكأنني عدة أشخاص يحملون نفس الاسم. لقد انتقلت إلى تسع شقق مختلفة في السنوات التسع الماضية، وقمت بتغيير جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي مرتين والهاتف ثلاث مرات.
ورغم أنني سعيدة بكل ما حققته، إلا أنني أعاني من الشعور ب “ذنب الناجي”، وهو مفهوم لم أفهمه إلا مؤخرًا. عرفت سبب نومي على الأرض لمدة عام تقريبًا، من ديسمبر 2013 (بعد إطلاق سراحي) إلى يناير 2015. اتخذت هذا القرار لأنه كان لدي، على عكس عادل وجميع زملائي/زميلاتي الآخرين/الأخريات في السجن، سرير لأنام عليه وبطانية دافئة لأغطي بها نفسي. يمكنني على الأقل أن أشاركهم/ن إحدى معاناتهم/ن إذا نمت مثلهم/ن. أعتقد أن الشيء الوحيد الذي جعلني أتوقف هو الزواج، وبعد ذلك بالطبع، كان علي أن أعيش حياة شبه طبيعية مع شريكي وأن أنام على السرير مثل معظم الناس.
لقد كنت مهتمةً فقط بعملي ومسؤولياتي في الحياة، حيث أنني لم أُلاحظ بعد مرور سنوات في تركيا، كيف يقضي الناس عطلات نهاية الأسبوع في المطاعم الراقية، أو يقومون بالتنزه في الحدائق، أو الذهاب إلى صالات الألعاب الرياضية. شعرت بالخجل عندما اضطررت إلى كتابة مقالات ترفيهية لفترة، قمت خلالها بتأليف ما اعتبرته مقالات وأخبارًا عديمة الفائدة. كنت خجولةً بشأن مشاركة صور أوقات الفراغ مع الأصدقاء على Instagram.
كلما شعرت بالإحباط، كنت ألوم نفسي على عدم تقدير الهدايا التي حصلت عليها في حياتي، مثل الحرية والأمان. أشعر بأنني محظوظة، لأنه لو لم أكن كذلك لكنت مثل زملائي/زميلاتي الذين/اللواتي يعيشون/يعشن في زنزانة داخل السجن.
عندما لاحظت أنني أعاني من ذنب الناجي هذا، قررت ألا أعرض نفسي كثيرًا لأخبار المسجونين/ات. في بعض الأحيان كنت أستطيع إيقاف نفسي، لكن في بعض الأحيان لم أتمكن من ذلك، كما هو الحال الآن مع إضراب علاء عبد الفتاح عن الطعام. أنا صحفية أحتاج إلى متابعة التحديثات، ولكنني أشعر أيضًا بالارتباط مع معاناتهم. كلما أعرف أي تفاصيل جديدة عن عبد الفتاح، أتخيله جالسًا في زنزانتي، متكئًا بظهره على نفس الجدار الذي كنت أنام بجانبه حتى أرى باب الزنزانة عندما يفتح فجأة. لكني أراه ضعيفًا وهو يفكر في مصيره. وآمل أن يتم إطلاق سراحه قريبا. أفكر في الوقت الذي سيحتاجه للشفاء جسديًا وروحيًا عندما يعود إلى الحياة اليومية.
كان عادل قد احتفل بعيد ميلاده الحادي والثلاثين في يونيو الماضي. كانت أعياد ميلاده التسعة الأخيرة جزءًا من حياته في السجن: الضرب والشتائم والزيارات القصيرة مع عائلته. لا يستطيع وضع خطط لمستقبلهم أو الحاضر. أتساءل أحياناً عما إذا كان يستطيع العيش بين تلك الجدران لمدة ربع قرن، أو كيف يمكن أن يعيش بعد إطلاق سراحه في عالم يتغير بسرعة. على الرغم من أنه كان شخصًا اجتماعيًا للغاية، إلا أنه خلال السنوات التسع الماضية لم يتمكن من قضاء الوقت مع أصدقائه أو رعاية أسرته. لم يعرف عادل ماذا يعني السفر من بلد إلى آخر، أو التحدث مع أشخاص من ثقافات أخرى، أو تعلم مهارات جديدة مثل الغوص، أو الاستمتاع بمذاق السوشي، أو شم الهواء الدافئ، أو الشعور بالشمس. ولم يتمكن من متابعة وسائل التواصل الاجتماعي للتعرف على علاقة الأمير هاري وميغان ماركل، أو مقابلة أديل مع أوبرا، أو تنصيب الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن، أو الغزو الروسي لأوكرانيا.
أخشى الفجوة الهائلة بين العالم الذي تركه قبل دخوله السجن والعالم الذي نعيش فيه الآن. خلال الوباء، تم عزلنا جميعًا من أجل صحتنا. لقد كانت لدينا رفاهية في عزلتنا، على الرغم من أن البعض منا عانى لاحقًا من الحياة اليومية. تخيل عزل شخص يعرف أن العالم يتحرك بسرعة كبيرة بينما هو لا يزال عالقا في الزمن. قال شقيق عادل بأسف: “كان يسأل دائمًا عن عائلته والوضع في مصر، لكن ما يسأل عنه الآن هو ما إذا كان هناك طريقة للخروج من السجن ورؤية العالم الخارجي”.
وبعد تسع سنوات أجاب: “لقد فقد الإحساس بالوقت”، ردا على سؤالي حول ما يفهمه شقيقه عن العالم الخارجي.