فيمينا: حق، سلام، شمولية

فيمينا: حق، سلام، شمولية
تدعم فیمینا المدافعات عن حقوق الإنسان ومنظماتهن والحركات النسوية في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا

معلومات الاتصال

التعايش مع الصدمة: تحليل نسوي للصدمة المؤسسية والرعاية

بقلم: باكيتا كاسادها

منبع: King’s College London

المصدر: مرکز یارا

تتناول هذه المقالة التأملية تأثير الصدمات المؤسسية من منظور جندري، مسلطةً الضوء على مثال واقعي يوضح انتشار الصدمات داخل المؤسسات العنيفة والأبوية. وتختتم المقالة بدعوة لتعزيز التدخلات النسوية لمعالجة هذه الصدمات بشكل فعّال.

***

عندما تعرضت للتحرش الجنسي من قبل بعض الرجال الأكبر سناً في حيّنا، كان أول ما أتذكره عن حالتي العاطفية هو شعور بالخدر، وسرعان ما تبعه شعور بالخوف. ذلك الخوف الذي تشعر به معظم النساء عندما توضع حياتهن الجنسية تحت المجهر؛ الخوف من اللوم والعار. هل سيصدقني أحد؟ هل سيعتقدون أنني المخطئة؟ هل كنت أنا المخطئة؟ ماذا ستكون العواقب إذا اكتشف أحد ما حدث؟

نتيجة لهذه المخاوف، كانت أول عقبة لم أتمكن من تجاوزها هي كيفية الكشف عن هذه الأحداث للآخرين/ات. قضيت عقدًا كاملًا، طوال فترة مراهقتي، أعيش مع هذا السر بمفردي. لم أفهم شيئًا مما حدث لي عندما كنت أصغر سناً، ولكنني عشته. أبعدت الناس عني لأنني كنت أشعر بالخدر والتبلد العاطفي. عشت هذه التجربة كفتاة صغيرة، ثم كأمرأة شابة تحت مراقبة المجتمع الذي يدعي أن على المرأة حماية عذريتها، وارتداء الملابس المناسبة، والتحلي بالأدب دائمًا (رغم أنه لم يُعلمها كيفية وضع الحدود). عشت صدمة التحرش الجنسي في عالم كان يذكرني باستمرار بأنه كان ذنبي وأنه كان عليّ أن أتحمل العواقب.

العيش مع هذا الخوف والعار لأكثر من عقد من الزمن كان له تأثير كبير عليّ في منتصف العشرينات وأواخرها. تعرضي لحدث صادم آخر في منتصف العشرينات أعاد تفعيل صدمتي وقلقي واكتئابي. كانت تلك فترة صعبة للغاية، لكنها جعلتني أدرك أنني ربما أحتاج إلى مساعدة. استغرق الأمر أقل من ساعة في جلسة العلاج حتى يكتشف المعالج أنني أعاني من اضطراب ما بعد الصدمة. استغرق الأمر مني ما يقارب نصف عقد، لكن هذه التجربة ساعدتني على بدء عملية الشفاء والمقاومة. ناضلت ضد العزلة، تواصلت مع الناس، تحدثت عن تجاربي، وتعلمت ببطء قيمة العلاقات الحقيقية والذاتية. معرفة أنني لم أكن مضطرة لمواجهة كل ذلك وحدي وأنني تلقيت الدعم جعلت نوبات الهلع والأعراض الأخرى للصدمة أكثر احتمالًا. بالإضافة إلى ذلك، كوني قادرة على كتابة هذه المقالة، وأنا على قيد الحياة، وبصحة جيدة، ومدعومة من عائلتي وأصدقائي، يعد خطوة أخرى نحو عملية الشفاء.

أشارك تجاربي الشخصية لتسليط الضوء على جوانب هامة للصدمة، مثل تأثير الجنس، والمؤسسات، والتدخلات من منظور نسوي.

تحليل نسوي للصدمة

يدمر الاضطراب العاطفي والنفسي العميق الذي يعاني/تعاني منه فرد ما بعد تجربة صادمة إحساسه/ا بالأمان والاستقرار وقدرته/ها على إيجاد معنى في حياته/ا. يمكن أن يؤدي هذا إلى فقدان كبير للثقة، ليس فقط في شخص واحد، بل في الناس عمومًا. غالبًا ما تؤثر الصدمة على قدرة الشخص على التواصل مع الآخرين/ات وبناء علاقات صحية. وإذا لم تُعالج الصدمة بشكل سريع، فقد تظهر بطرق متعددة وتؤثر على قدرة الشخص على العيش بشكل صحي وسعيد.

تُظهر الدراسات حول اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) في الأدبيات الطبية جوانب تاريخية تتسم بالطابع الأبوي والإمبريالي. نشأ هذا الاضطراب من الحاجة إلى تشخيص الأعراض الجسدية والعاطفية للصدمة التي عانى منها الجنود خلال الحرب الأهلية الأمريكية والحرب العالمية الأولى، وكان الهدف من ذلك هو معالجة هذه الأعراض لإعادة إرسالهم إلى جبهات القتال. أما الأعراض المماثلة التي ظهرت لدى النساء قبل وضع مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة، فكانت تُصنَّف عادةً على أنها “هيستيريا” أو “أمراض أنثوية”. لذا، ظل اضطراب ما بعد الصدمة مرتبطًا لفترة طويلة بمصابي الحرب الذين يعانون من صدمة القذائف.

ومع ذلك، فإن حقيقة أن النساء أكثر عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة مرتين مقارنة بالرجال تبرز الجوانب الجندرية للصدمة وتؤكد الحاجة إلى تدخلات تراعي هذه الفروق لدعم الناجيات. فالنساء يكنّ أكثر عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بسبب نوعية الأحداث الصادمة التي يتعرضن لها بشكل أكبر، مثل الاعتداءات الجنسية وسوء المعاملة. هذه الأحداث تسبّب اضطراب نفسي شديد بسبب ميل المجتمع إلى لوم النساء ووصمهن بسبب حياتهن الجنسية. كما أن القدرة على إيجاد معنى وراء هذه الأحداث تتأثر بسبب تعارض واقعين متناقضين: الشعور بالظلم من جهة، والشعور بالعار من جهة أخرى.

دائمًا ما يتأثر وعينا الجماعي بالمعايير النمطية الجندرية التي تُرسّخ العنف القائم على النوع الاجتماعي. تُبرز هذه الحقيقة قوة المغايرة جنسيا، حيث يتعرض أي شخص لا يتوافق مع هذه المعايير، بغض النظر عن ميوله/ها الجنسية أو هويته/ها الجندرية وتعبيره/ها، للعنف والاضطهاد والسخرية. في مجتمع متمركز حول الذكور، تُعطى قيمة أكبر لما يُعتبر ذكوريًا: مثل العدوانية، الفردية، القوة، والحسم، بل وحتى العنف نفسه. وبالتالي، يكون العنف القائم على النوع الاجتماعي أكثر شدة تجاه النساء وأفراد مجتمع الميم.

الصدمة المؤسسية والضغط النفسي الناتج عن الصدمات المستمرة

يمكن النظر إلى الصدمة في عالم أبوي يعاني من الاضطهاد الهيكلي على أنها تجربة مستمرة يواجهها الأفراد داخل المؤسسات وفي إطارها. في عالم رأسمالي يفضل الربح على حساب الأفراد، يزداد العنف والاضطهاد لأن الناس يُعتبرون مجرد عناصر في سلسلة الإنتاج العالمية. من بين الرؤى القيمة التي تقدمها لوسي تومسون في أعمالها هي رؤيتها للصدمة كظاهرة تُنتج وتُعاد إنتاجها باستمرار ضمن المؤسسات الرأسمالية والأبوية. تركز تومسون على أهمية فهم ومعالجة الصدمة في سياقها النفسي والاجتماعي بدلاً من التعامل معها كاضطراب مرضي فقط.

في جوهر العنف القائم على النوع الاجتماعي والصدمة المؤسسية تكمن الفوارق الهيكلية بين الجنسين التي تتجذر في المؤسسات المختلفة، بدءًا من الأسرة، وصولاً إلى أماكن العمل، والمدارس، وجميع المؤسسات العامة والخاصة التي يتفاعل فيها الناس مع بعضهم البعض. في الفيلبين، تتغلغل ثقافة لوم الضحية والتحكم في مظهر النساء وأفعالهن وتفاعلاتهن في الوعي الجماعي وتظهر في الممارسات الرسمية وغير الرسمية للمؤسسات. على سبيل المثال، في كثير من الحالات يتم طرد الفتيات الحوامل من المدارس بينما يُسمح للآباء بالاستمرار في الدراسة. كما أن الفتيات اللواتي يتعرضن للإساءة الجنسية من قبل أفراد من عائلاتهن قد يُمنعن من الإبلاغ عن تلك الإساءة أو يُجبرن على الصمت لحماية الأسرة، خاصة في السياقات التي يكون فيها اقتصاد الأسرة مهددًا. إضافة إلى ذلك، تظل خدمات الصحة الإنجابية غير متاحة لملايين النساء الفلبينيات بسبب المعتقدات الدينية القوية والنماذج الجندرية التي تسعى لقمع حياتهن الجنسية. في هذا السياق، تتحمل النساء العبء النفسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لحياتهن الجنسية، مما يجعل الاعتداءات الجنسية تحمل عواقب صحية نفسية أكبر عليهن.

تضاف إلى هشاشة النساء الجنسية الحواجز الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر على فرصنا في البحث عن العدالة والمساحات الآمنة. ومع مضاعفة هذه الحواجز من خلال الضغط الناتج عن التعرض للاعتداء الجنسي والعيش ضمن مؤسسات أبوية وذكورية تلومنا وتحرجنا، يتم إنتاج وإعادة إنتاج الصدمة والعنف الذي نواجهه يوميًا

فيما يتعلق بالضغط النفسي الناتج عن الصدمات، يقول الخبراء إن الأعراض لا تختفي تمامًا. قد تظل كامنة لسنوات، لكنها جزء من ردود أفعالنا الطبيعية تجاه المحفزات التي قد نواجهها في أي وقت. إعادة تركيز الصدمة كاستجابة طبيعية للتجارب المجهدة بشكل مفرط هي إحدى المبادئ الأساسية لإعادة تصوّر الصدمة في سياق الضغط النفسي المستمر (CTS). الانتقال من “ما بعد” في اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) إلى “المستمر” في الضغط النفسي المستمر (CTS) يفترض أنه، في عالم مليء بالحروب والعنف المؤسسي، لا يكون الضغط النفسي الناتج عن الصدمات ناتجًا فقط عن أحداث في الماضي، بل أيضًا عن الأنظمة والمؤسسات الأبوية والرأسمالية التي تنتج وتعيد إنتاج الصدمة. الأفراد الذين/اللواتي لا يتوافقون/يتوافقن مع الهياكل الذكورية الموجودة في المؤسسات الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة ومكان العمل والمؤسسات الدينية، يتعرضون/يتعرضن لأشكال أكبر من العنف.

تطوير التدخلات النسوية والرعاية للناجيات من الصدمات

تزداد الحاجة إلى تدخلات نسوية تركز على الرعاية بشكل أكثر وضوحًا في ظل واقع الضغط النفسي المستمر (CTS). يمكن أن يكون التحقيق في الهياكل (الجندرية) للسلطة التي توجد داخل المؤسسات خطوة مهمة في التخفيف من العنف والصدمة التي تواجهها النساء والأشخاص ذوو الهويات الجندرية والميول الجنسية المتنوعة يوميًا، أو ربما القضاء عليها. إن فهم الصدمة في سياق المؤسسات الجندرية يمكن أن يساعد في تحسين البحث والسياسات لمعالجة عدة أشكال من الصدمة، وخاصة في سياق العنف القائم على النوع الاجتماعي (GBV).

أخيرًا، كما أن الصدمة تعزل الفرد وتفصله/ها عن محيطه/ها، فإن إعادة الاتصال بالذات والآخرين/ات يمكن أن تكون طريقًا أكثر تعمدًا نحو شفاء الصدمة. طريق الشفاء ليس حدثًا معزولًا، بل هو جهد مشترك بين الفرد والمؤسسات التي يتعامل معها والمجتمع بشكل عام. يمكن للنُسويات مقاومة الصدمة من خلال القيام بما نٌجيد فعله؛ وهو التوحد في تضامن لمواجهة وإلغاء القوى الأبوية التي تضطهدنا وتقسمنا بعنف.