فيمينا: حق، سلام، شمولية

فيمينا: حق، سلام، شمولية
تدعم فیمینا المدافعات عن حقوق الإنسان ومنظماتهن والحركات النسوية في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا

معلومات الاتصال

كيف نحافظ على الأمل حيًّا في حركاتنا؟

بقلم: د. عائشة خان

المصدر: Cosmic Anarchy

الأمل هو حجر الأساس لكل نضال من أجل التحرر. غير أنّ الوصول إليه ليس أمرًا يسيرًا، خصوصًا في “الغرب”. أرى الكثيرين يكافحون للتشبّث بالأمل، أو يغرقون في بحرٍ من اليأس وهم يشاهدون مجزرة متصاعدة تُبثّ على الهواء مباشرة، رغم مرور أكثر من شهرين على جهود التضامن. وبوصفي امرأة نشأت في الجنوب العالمي وأعيش الآن في الولايات المتحدة، وجدت نفسي أتأرجح مرارًا بين الأمل واليأس. وخلال هذه الرحلة ظللت أسأل: من أين ينبع الأمل؟ ولماذا يصعب الوصول إليه في المجتمعات الرأسمالية؟

لقد تبيّن لي أن معنى الأمل في قلب هذه الإمبراطوريات يختلف جذريًا عمّا يعنيه في الجنوب العالمي، أو في وجدان المجتمعات الجمعية. يحاول هذا المقال تفكيك هذه الفروقات، لاستخلاص دروس حول كيفية إبقاء شعلة الأمل حيّة في مساراتنا التحررية.

تناقضات الأمل

غالبًا ما يتفشّى اليأس بين الفئات المتمتّعة بالامتيازات المحمية من العنف المباشر. ومع ذلك، حين أتأمل المقاومة الفلسطينية على الأرض – حتى من آلاف الأميال، عبر المحيطات – أشعر بشعلة الأمل تتقد من جديد في داخلي. إن قدرتهم على ابتكار وصون أملٍ صلب لا ينكسر تبهرني وتلهمني. فالفلسطينيون لا يواجهون فقط آلة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الوحشية، بل أيضًا القوى الإمبريالية المدمِّرة التي تموّلها (مثل الولايات المتحدة). ومع ذلك، لا يمكن قتل الأمل في قلب مناضلة أو مناضل. ولا يمكن قمع الموجات التي يطلقها الأمل المتجدد في تضحيات الشهداء الذين ارتقوا وهم يقاومون.

هذه الإبادة مستمرة منذ ما يقارب ١٠٠ عام و٧٦ يومًا، ومع ذلك يبقى الفلسطينيون ثابتين في سعيهم الذي لا يلين من أجل الحرية، جيلًا بعد جيل. لكن لا ينبغي أن يُجمل نضالهم. إن صمودهم ليس اختيارًا رومانسيًا، بل ضرورة وُلدت من أهوال لا يمكن لمعظمنا تخيلها. لم يطلبوا هذا النضال. إن الاحتلال الاستعماري العنيف لأرضهم الأصلية هو واقع لا يمكن إنكاره وُلدوا فيه. خيارهم الوحيد هو المقاومة أو القبول السلبي بإبادة شعبهم. فهل الأمل إذن خيار؟ أم أنه شعلة يُجبر الناس عبر التاريخ على إبقائها متقدة من أجل البقاء؟ كيف تظل المجتمعات الجمعية المقاومة للاستعمار حول العالم متفائلة رغم الاضطهاد الهائل؟ كيف يحملون في آن واحد الألم والحزن والأمل والفرح؟

تفكيك استعمار الأمل

لماذا الأمل حاضر ومتفشٍّ بين من هم في خطوط المواجهة بينما هو نادر بين من هم في الأطراف، المحميين؟ أعتقد أن السبب يعود إلى الفردانية والقيم الاستعمارية.

الحركات المقاومة تعطيني الأمل. كان الناس يقاتلون دائمًا عبر التاريخ، في مواجهة العنف المنهجي الوحشي، من أجل الحرية وحقهم في الحب، حب بعضهم البعض، الأرض، ثقافاتهم المتنوعة، وأسلافهم. مجتمعات هدمت إمبراطوريات كاملة. استغرق الأمر أجيالًا من المقاومة الصلبة. استغرق الكثير من الإيمان والقناعة والتصديق بمستقبل حر. استغرق عقودًا وأحيانًا قرونًا، لكن الناس حرروا أنفسهم. دائمًا. فما الذي يمكن أن نتعلمه منهم؟

ليس الأمل شعورًا يولده الفرد من داخله. الأمل شعلة تُخلق عمدًا في المجتمع ثم تتخللنا جميعًا.

الأمل، السعادة، الفرح، الطمأنينة، الأمان، المعنى، الهدف، الدافع، الإبداع— كلها أشياء لا يمكن للفرد أن ينتجها بمعزل، حتى لو أقنعك المنطق الاستعماري بغير ذلك. الأمل نار تُشعل وتُبقى حية بجهود جماعية. وككل طاقة مغذية للحياة داخل النظام البيئي، نحن نعتمد على بعضنا كي نملك الأمل. مثل البقاء، الأمل مسؤولية جماعية، وليس عبئًا فرديًا. علينا أن نلعب دورنا في البحث عن مجتمع يُمكن أن يُعاد فيه خلق الأمل بشكل جماعي.

  • الأمل ليس هدفًا أو محطة نهائية

يصاب الناس بخيبة أمل حين لا يرون نتائج فورية، وهذا التعجّل سمة أساسية للمجتمعات الرأسمالية/الاستعمارية التي تبرمج الناس على ملاحقة أهداف فردانية وإنجازات شخصية. ينشغل الناس بجمع الاعتراف عبر “تحقيق” شيء ما، بينما يتجاهلون جوهر العملية نفسها. يريدون صعود الجبال ليس من أجل الرحلة، ولا الدروس التي يتعلمونها، ولا النمو والتحوّل الذي يخوضونه، بل فقط من أجل رفع راية الانتصار على القمة.

“ما فائدة الحياة إن لم نُخضِع شيئًا أو نكن الأفضل في شيء ما؟” هذه المنطقية نفسها تتغلغل في النشاط السياسي في الغرب، خصوصًا في الأوساط الليبرالية. ينخرط الناس في “النشاط” وكأنه فعل خارجي منفصل عن حياتهم الشخصية، متوقعين نتائج شبيهة بما يحصلون عليه في وظائفهم: إنتاجية، إنجازات، نجاحات مرئية أو سهلة القياس. وعندما لا “نربح” وفق التعريفات الضيقة للرأسمالية لما يعنيه الفوز، يتساءل الناس: “إذن ما الجدوى من كل هذا؟”

لا أقول إن الاحتفاء بالإنجازات الصغيرة في حركاتنا ليس مهمًا. على العكس، من الضروري أن نمارس الفرح. لكن من غير المستدام أن نربط فرحنا بمعايير ضيقة للنجاح. هذه ليست سباقًا قصير المدى، بل ماراثون طويل. ليست منافسة، بل نضال جمعي من أجل التحرر.

الأمل ممارسة ثقافية وتقاليد جمعية

المجتمعات الجمعية لديها طقوس تفصيلية ليس فقط لأنها تمنح الحياة معنى، بل لأنها تُمكّن الأمل من الاستمرار. حتى الأفعال البسيطة مثل تحسين وصفة تقليدية، أو الصلاة الجماعية، أو الحِداد معًا لأيام وأسابيع، أو صقل فنّ رقص جماعي— كلها تشكّل التربة التي تُرسّخنا وتربطنا بما هو جوهري. الانتصار بالنسبة لنا قد يكون وجبة تُطهى وتُشارك في مجتمع. الانتصار قد يكون ليلة تبادل قصص حول النار مع كوب شاي. الاستغراق في مشاهدة الفيديوهات على الهاتف قد يغرقنا باليأس، وهذا مفهوم، إن كان هذا هو الشيء الوحيد الذي نفعله. العزلة والوحدة تقتل الناس حرفيًا— وليست مجرد مبالغة. أما عندما ننظّم أنفسنا في مجتمعات، ونعثر على من يشاركنا الشغف والحماس للتحرر— يصبح الأمل موجودًا في الأفعال نفسها: التعرّف على بعضنا البعض، البناء معًا، يومًا بيوم ووجبة بوجبة. إن عملية النضال المشترك نفسها هي فعل تحرري. علينا أن نركز على الحياة اليومية، على المسار نفسه، لا فقط على “الهدف النهائي”. علينا أن نمارس بوعي فعل المشاركة، والحضور في اللحظات الصغيرة التي تتراكم معًا لتقود إلى الحرية. ليس لأن هناك جائزة بانتظارنا في نهاية الطريق، بل لأن كل لحظة بحد ذاتها تحمل الحياة.

ينبع الأمل من كل لحظة نعيش فيها قيم التحرر الجمعي رغم الجحيم الرأسمالي/الاستعماري الذي يحاول تفكيك روابطنا. ينبع الأمل من كل لحظة ندرك فيها مدى ارتباطنا بالأرض— مثل فراشة تحط على زهرة. ينبع الأمل من رؤية مظاهر الجمعيّة متجسّدة حولنا— أسراب الطيور التي تتحرك في انسجام، تتبع وتقود بعضها البعض، تلتف وتدور معًا في وحدة متكاملة، في مشهد جماعي مهيب يُسمى “التجمهر” (murmuration).

حتى وسط الفيديوهات التي توثّق الفظائع في غزة، هناك لحظات من الأمل: أطفال يواسون كبارهم الجرحى، أشخاص يحفرون تحت الركام وينقذون ناجيًا بعد أيام، أطفال يحتضنون هرّة أنقذوها من بيت مقصوف، طواقم طبية يسمّون طفلًا يتيمًا نجا ويتعهدون برعايته، عائلات تتقاسم القليل من الطعام مع من لا يملكون شيئًا، ناس يغنّون ويرقصون لإضحاك طفل فيما القنابل تتساقط في الخلفية— وطبعًا المقاومة، التي هي المصدر الأعمق للأمل عند الفلسطينيين في حياة تتجاوز وحشية الاحتلال. قد يكون مشهدًا محزنًا، لكنه أيضًا باعث للأمل.

نحن لا نقاتل فقط من أجل حاضرنا، بل أيضًا من أجل من سبقونا ومن سيأتون بعدنا.

الوعي الجمعي بين الأجيال أمر بديهي في بعض المجتمعات، لكنه غريب على كثيرين غير معتادين على التفكير خارج ذواتهم، فضلًا عن العمل من أجل حماية الأجيال القادمة. تقنع الرأسمالية الأفراد بأن يهتموا بأنفسهم فقط، فتقطعهم بذلك عن مجتمعهم— ليس فقط في الحاضر، بل أيضًا عن مجتمعات الماضي والمستقبل. تضحّي فصائل المقاومة الفلسطينية بكل شيء، بما في ذلك حياتها، مع علمها بأنها قد لا ترى فلسطين حرة في حياتها، لكن الأجيال القادمة قد تراها. علينا أن نقاتل وكأن الحرية التي نتخيّلها يمكن أن تتحقق الآن، ولكن أيضًا أن نلتزم بالنضال بغضّ النظر عن النتائج. هذا المنطق الأساسي هو ما يغذّي الجماعية. لا تزرع المجتمعات المرتبطة بالأرض فقط للحصول على طعام للعام المقبل، بل تزرع بذور أشجار ستثمر بعد عقود أو حتى قرون. هذه الرؤية البعيدة وهذا الحرص يخلقان أنظمة بيئية أكثر قوة واستدامة، وتُخصّب تربتنا في الحاضر أيضًا. إنها ليست مجرد تضحية، بل فعل متبادل. يولّد التفكير أبعد من الذات الفردية الأمل. لسنا بحاجة لليوتوبيا مثالية مؤجلة كي نعيش الأمل الحقيقي. علينا أن نعمل على خلقها اليوم، وهي موجودة حولنا إن كنّا مستعدين لرؤيتها.

إلغاء الإيجابية الليبرالية السامّة وفتح الطريق نحو الأمل الجذري

تسرّع فترات الاضطراب الشديد من الوعي الجمعي وتدفع الناس لمواجهة التناقضات. نحن في لحظة حاسمة، حيث بدأ كثيرون يدركون أن القنوات السائدة لـ”التغيير” لن تحررنا أو تحرر أي شخص في فلسطين. بدأ بعضهم يرى عمق الجرح، ويرى الطبيعة القمعية للأنظمة، وأصحاب السلطة، والأيديولوجيات المهيمنة.

من يعلّقون آمالهم على أساليب “سلمية” مريحة لإسقاط هذه الإمبراطوريات العنيفة، سيصطدمون بخيبة تلو الأخرى. أحيانًا تدفع هذه الخيبة بعض الناس نحو مزيد من الجذرية، وأحيانًا أخرى تؤدي إلى انسحابهم الكامل من القضية، بذريعة أن “لا أمل”. لكن لا يأس مع الإيمان العميق بالرؤية، والعمل عليها كما لو أن التحرر وشيك وحتمي— اليوم، غدًا، أو بعد جيل. مسؤوليتنا ليست أن “ننجز” التحرر ونشعر بالهزيمة إن لم يتحقق في زمننا، بل أن نؤدي دورنا بإخلاص وثبات. فلسطين ستكون حرة— هذا ليس حلمًا، بل وعدًا.

من الشائع أن نرى أشخاصًا يشاركون في احتجاجات أسبوعية، يتصلون بممثليهم للمطالبة بوقف إطلاق النار، ينشرون قصصًا على إنستغرام، أو حتى يقاطعون، بينما في الوقت نفسه يدينون جهود المقاومة الفلسطينية على الأرض. هذه الوهم الليبرالي متجذّر في المنطق الاستعماري وفي عقلية “المنقذ الأبيض”— حيث يمارس المترفون، البعيدون عن العنف، أشكالًا مريحة من “النشاط” حتى لو كانت عقيمة، بينما يجرّمون المقاومة الفعالة على الأرض من قِبل من هم الأكثر تضررًا.

الالتجاء فقط إلى الأنظمة القمعية نفسها التي تسبّب الإبادة، والتوسل للحصول على “فتات” منها، وصفة مثالية لليأس. أما الفعل المباشر الذي يستهدف هذه الأنظمة ويُضعف قبضتها علينا فهو مصدر أمل— سواء في قلب الإمبراطورية الأمريكية أو في فلسطين.

الشيء الأساسي الذي سيضع حدًا نهائيًا لهذه الإبادة ويحرر فلسطين هو المقاومة الفلسطينية— وهي تحتاج إلى كل ذرة من الدعم غير المشروط والتضامن الممكن. فالناس الذين يقفون في الصفوف الأمامية، يواجهون ويصمدون ويقاومون، هم أصحاب الدور الأهم، المباشر، الفعّال، والحاسم في أي نضال من أجل التحرر. فمن نكون نحن لنزعم أننا نعرف أفضل منهم؟

هذا لا يعني أن أشكال التضامن الأبسط، الأكثر شيوعًا، والمقبولة اجتماعيًا، ليس لها أي فائدة في المساهمة بتحرير فلسطين وإنهاء الصهيونية في النهاية. ومع ذلك، ينبع الأمل من كوننا واقعيين حول نوع وحجم التأثير الذي يُفترض أن تُحدثه هذه الأفعال. حان الوقت لأن نكون صادقين مع أنفسنا. فالأمل يصبح بعيد المنال حين نحصر أنفسنا داخل وهم معقّد، نربّت على أكتافنا اعتقادًا منا بجدارتنا في “التحالف المثالي”، فقط لنواسي أنفسنا قبل النوم.

علينا أن نكون مستعدين لدفع حدود ما كنا نظن أنه ممكن. ما هي الخطوات الحقيقية التي ستؤدي بالفعل إلى التحرر؟ التنظيم المجتمعي سيجبرك على التفكير خطوة بخطوة، لأنك ستواجه حواجز متكررة. وسيُظهر لك بالضبط لماذا يختار الناس الفعل المباشر بدلًا من التوسل إلى المؤسسات أو الأشخاص أصحاب السلطة.

توفر لنا الاحتجاجات مساحة لبناء المجتمع وخلق الأمل بشكل جماعي، بينما يمنحنا الفعل المباشر الأمل ذاته.

كان من الصعب تنظيم أنفسنا من أجل فلسطين في الجنوب الأمريكي. حتى وقت قريب، لم يكن في ناشفيل أي إطار تنظيمي مجتمعي خاص بفلسطين يوفّر بيتًا سياسيًا للناس كي ينضموا ويشاركوا في فعل مباشر فعّال. في أماكن أخرى مثل نيويورك وشيكاغو والساحل الغربي، بُنيت هياكل قوية على مدى عقود. أما في سياقنا المحلي الحالي، فما زال أمامنا طريق طويل لبناء قاعدة تنظيمية أكثر صلابة ومُرتكزة على رعاية المجتمع.

نُظمت أول احتجاجات في ناشفيل من قبل مجموعات متفرقة من الناس اجتمعوا فقط من أجل مسيرات فردية. أتذكر أول احتجاج في أكتوبر. أمسكت بالميكروفون وهتفت:
“الحرييييية، الحرية لفلسطين!” (وهتف الناس في الحشد بنفس الإيقاع)،
“الحرية، الحرية، الحرية لفلسطين!” (هتف الناس بالمثل بنفس السرعة).

نظرت حولي وأخذت لحظة لأكون حاضرة فعليًا مع الأشخاص من حولي. مئات، ثم في الاحتجاجات اللاحقة، آلاف. رأيت بحرًا من الناس يشبهني كثيرًا أو يشبه أقاربي— كبار السن يعانقون بعضهم البعض، أطفال صغار يحملون لافتات بصور الشهداء، أطفال سود وبُنيّون في عربات ملفوفون بالكوفية، الحجاب، والقبعات التقليدية، ألوان فلسطين والسودان، ثياب تقليدية مثل الثوب والسلوار كاميز، جدّات نزحن خلال النكبة يلوّحن بالأعلام بفخر.

شعرت بطبقات من المشاعر الثقيلة، المكثفة، العميقة تتدفق داخلي وتطغى عليّ. تعثرت قليلًا.
“من النهر إلى البحر!”
“فلسطين ستكون حرة!”

على عكس معظم الأماكن في الولايات المتحدة، كان هناك عدد أكبر من الأشخاص الملونين مقارنة بالبيض. وكانت هناك لغات كثيرة غير الإنجليزية تُتحدث من حولي.

“‏من المية للمية فلسطين عربية” (تتردد الهتافات العربية بصوت عالٍ عبر الحشد). ثم سمعت الطبول تنضم في انسجام، وشعرت بالايقاع يهز قلبي. انهمرت دموعي، وكان ذلك بعد أسابيع من الشعور بالاختناق، غير قادر على الحزن أو التندب الحقيقي للدمار. لقد كنت في ناشفيل لمدة سنة ونصف، لكن ربما كانت هذه أول مرة شعرت فيها بالقرب من “المنزل”، وهذا يعني الكثير.

الناس في الحشد لم يكونوا يتظاهرون بالسعادة. كنت أرى وأشعر جسديًا بثقل الحزن الذي كانوا يحملونه. كان الناس مرتجفين، محطمين، يبكون، يعانقون بعضهم بعضًا، يصلّون، يهتفون، يسيرون في المسيرة، وفي الوقت نفسه يدعمون بعضهم البعض، يعزون، يطمئنون ويقدّمون الدعم.

اقتربت مني امرأة مسنّة من خان يونس في غزة، فقدت ٣٠ من أفراد عائلتها، كانت مرتجفة، وشعرت بالإرهاق من التضامن الذي عبّر عنه كل من حولها. منذ ذلك الوقت، تعرفت عليها أكثر، فقد حضرت كل احتجاج أو نشاط، حتى المخاطر، مرتدية الكوفية والحجاب، رافعة علم فلسطين كبير، وكانت من بين أعلى الهتافات صوتًا، تنقل الحماسة، القوة، والشغف في كل كلمة تنطق بها.

هذا هو هدف الاحتجاجات— أن نجد بعضنا البعض، نتواصل، ونبني معًا شيئًا أكثر استدامة وطويل الأمد.

لكن حتى أمر بسيط مثل الاحتجاج يجب أن يُنظَّم عن قصد وبما يتماشى مع مبادئ المقاومة الفلسطينية على خطوط المواجهة الأمامية في هذا النضال. “المقاومة مبررة ما دام هناك احتلال!” من الهتافات إلى الخطابات وصولًا إلى الدعوات للعمل— علينا أن نكون متمسكين بالمبادئ، جريئين، وحازمين في دعمنا للمقاومة الفلسطينية، وألا نخفف من حدة القضية أو نخفف من جوهرها.

الاحتجاجات المسموح بها وحملات المقاطعة هي الحد الأدنى لا الحد الأعلى

يمكن أن تكون الاحتجاجات شرارة للتغيير، لكنها لم تُصمَّم أبدًا لتكون أفعالًا ثورية بالغة التأثير تُضعف البنى القمعية بشكل كامل. نحن ننظّم الاحتجاجات في المقام الأول لإتاحة مساحة لأعضاء مجتمعنا ليلتقوا، ليبكوا ويصرخوا بالغضب والحزن دون أن يُراقبوا، ليعبّروا عن أنفسهم وهم مطمئنون إلى وجود شبكة أمان، ولِيُرى ويُشهد لحزنهم. الاحتجاجات أو الفعاليات المنفردة هي مساحة للقاء الناس، كي تتمكن من التنظيم أو للبحث عن جماعات تعمل بالفعل على هذا النوع من العمل المجتمعي. في حالتنا، سمحت الاحتجاجات للناس بالاستمرار في التواجد من أجل بعضهم البعض. وتمكن المنظّمون الشباب من مشاركة وجبات الطعام مع كبار أعضاء الجالية الفلسطينية والتواصل معهم بشكل حقيقي. هذا خلق زخمًا ليتجمع بعض الأشخاص معًا ويؤسسوا مجموعة تنظيم مجتمعي لفلسطين، بحيث يحصل الناس على بيت سياسي مبني على المبادئ ومناهض للظلم، يمكنهم أن يتعلموا فيه، ويكتسبوا الخبرة، ويدفعوا الحدود، ويقوموا بأفعال مباشرة تتجاوز ما كنا نظن أنه ممكن.

الاحتجاجات هي مساحة يمكن توجيه إحباطات الناس وخيبات أملهم فيها نحو تنظيم أكثر قوة ونضجًا واستدامة. مع مرور الوقت، ومع ارتفاع أعداد الضحايا، بدأ الناس يرون أن التجمعات لم تؤثر على أصحاب السلطة. أعضاء المجتمع الأكثر خوفًا والأقل خبرة انتقلوا من سؤالنا “هل الشرطة موافقة على هذا؟” إلى فهم أفضل لدور الشرطة في دعم القمع وقمع المعارضة بعنف. ومع بناء الثقة، أصبح الناس أكثر استعدادًا للمشاركة في أفعال أكثر جرأة وتعطيلًا. تدريجيًا، أصبح الأفراد مرتاحين لحجب حركة المرور، مستنزفين الشرطة بأعدادنا الغفيرة. أدرك الناس حينها أن هناك الكثير مما يمكننا فعله إذا تحركنا ككتلة واحدة. وفي النهاية، قمنا بالعمل المباشر وأغلقنا الشارع التجاري الأكثر ازدحامًا في ناشفيل لمدة ساعتين خلال ذروة عطلة نهاية الأسبوع، مما عطّل فعليًا حالة “الأعمال كالمعتاد” وتدفق الأرباح. ومن خلال كل هذا، بدأ العديد من أعضاء مجتمعنا، بمن فيهم كبار السن، يرون كيف أن جميع المجتمعات المقهورة موحدة في نضالاتها من أجل التحرر.

سمح الزخم المبكر الذي بنيناه في ناشفيل لنا بمعالجة قضايا أعمق داخل مجتمعنا مثل التطبيع. نحن نحرث التربة الآن، نركّز على تدريب الفعل المباشر، نزرع البذور، ونبني تحالفات عابرة للمجتمعات. النضال من أجل تحرير فلسطين يحرر مجتمعاتنا في ما يُسمّى ناشفيل— أراضي شعوب الشيروكي والشووني والتشوكو والشيكاسو والكريك. كل خطوة صغيرة نحو الفعل المباشر، كل لحظة من التواصل والتضامن التي تقوي الروابط المجتمعية، كل وجبة، صلاة، أو حديث صريح وعاطفي يسمح للناس بالانهيار ثم التجمع مجددًا، كل الصراعات التي واجهناها واضطررنا لمعالجتها، الصلابة التي بُنيت من خلال التعامل مع التعقيدات والفوضى في بناء المجتمع— كل ذلك هو ما يمنحني الأمل.

التوسل إلى السياسيين، أو الأغنياء، أو المشاهير للقيام بشيء ما ليس مصدرًا للأمل. الحلم بفلسطين حرة والعمل على تجسيد هذا الحلم اليوم هو ما يمنحنا الأمل. العثور على أشخاص للنضال والكفاح معهم يمنح الحياة. نسج الخيوط بين آلامنا ونضالاتنا يحافظ على استمرار الحياة. الدعم الجريء للمقاومة الفلسطينية يمنحني الأمل. في النهاية، الفعل الثوري المباشر هو ما يخلق الأمل— البناء نحوه، نسج العلاقات حوله، الانخراط فيه، ودعم الشعوب المقهورة أثناء مشاركتها فيه.

من هنا، إلى حيثما كنت، هناك الكثير من العمل الذي يجب إنجازه. لكنني أؤكد لك، أن النضال من أجل فلسطين حرة سيحررك أنت أيضًا… إذا سمحت له بذلك.