فيمينا: حق، سلام، شمولية

فيمينا: حق، سلام، شمولية
تدعم فیمینا المدافعات عن حقوق الإنسان ومنظماتهن والحركات النسوية في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا

معلومات الاتصال

استعادةُ مفهوم أودري لورد الراديكالي للعناية بالذات

 كاثلين نيومان-بريمانغ

 المصدر: مرکز یارا

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، وكان أحد الأيام الكثيرة الصعبة على المستوى الشخصي في ذاك المناخ الجحيمي الذي كانَه عام 2020، عبرتُ من بابي لأجد ملاحظاتٍ مكتوبة بخط اليد وموزعة بعناية داخل بيتي. كانت مخطوطةً على صور لرجال عراة الصدر كانوا يعجبونني في تلك الفترة – مايكل بي جوردان بالطبع؛ ويا لحرجي، شخصية وادي كينسيلا من مسلسل “هارت أوف ديكسي” [الكوميدي الأميركي] الذي كنتُ مدمنةً بشراهة على مشاهدته –  وكانت الصور والملاحظات المكتوبة عليها تنتظرني. كلٌ منها كان لهدَف ومحفِّز، مايكل جوردان كان في غرفة نومي ليشجعني على النوم، بينما كان وادي معلَّقاً على برّادي.

“لا تنسي أن تأكلي”، كُتبت تلك العبارة في فقاعة للأفكار كالتي نراها في الرسوم المتحركة، تماماً فوق ابتسامة متكلفة لوادي. قامت صديقاتي بذلك، وإحداهُّن تقطن في الشارع نفسه وفي حوزتها نسخة إضافية من مفاتيح بيتي، وقد ملأن البرادَ بالطعام وتركنَ لي تلك الملاحظات لشدة قلقهن علي، ذلك أنني في أقصى لحظات قلقي واضطرابي  وإنهاكي، يفوتني القيام بكل ما هو بديهي مثل النوم والأكل. لندع مفهوم “الاهتمام بالذات” جانباً، كنتُ حينها بالكاد أستطيع القيام بأي شيء. فقد كان عملي في تلك الحقبة، عام 2020، يتضمن التعامل مع حالات الفِقدِ والحزن علناً وبسرعة، الأمر الذي جعل أموري أسوأ. الإرهاقُ وصولاً إلى حد الإحراق النفسي الذاتي لم يكن شيئاً سعيتُ عليه، بل كان أمراً دفنتًه في ذاتي وجعلتُ نفسي مرتاحةً لوجوده ومعتادة عليه. العناية بالذات كانت مفهوماً أدعو إليه وقلَّما أمارسه. لستُ فخورة بذلك، ولطالما وبَّخَتني صديقاتي، ولم يكن ذلك مستداماً ولكنه كان ضرورياً في بعض الأوقات. أحياناً بدا بلوغً الحافة الخيار الوحيد. وبالنسبة إلى كثيرين مِن الأشخاص السود، إنه كذلك حقاً. وهنا يأتي دور الجماعة المحيطة بنا، أو لنقل إنه يجب أن يكون.

بادرةُ صديقاتي دفعتني إلى البكاء، ليس فقط لأنني كنتُ متعبة وجائعة، بل لأنها ذكرتني إلى إي مدى يشكل الاهتمام بالآخرين نوعاً من الاهتمام بذواتنا. كما كان ذلك إشارة إلى أن عليّ العناية بنفسي لأكون حاضرةً إلى جانب صديقاتي كما كنَّ معي. وبذلك يكون بوسعي المساهمة أكثر وبفعالية أكبر في المجموعة التي أنتمي إليها وأكتب لها: الفتيات السوداوات، النساء، وخصوصاً النساء السوداوات مِن المنظِّمات اللواتي يقمنَ بعمل ميداني يومي أكثر إرهاقاً بأشواط مما يمكن أن يكون عليه عملي. ذكرتني صديقاتي، ولو بمثال بسيط، أننا لسنا في أفضلِ أحوالنا من دون قريتنا [المقصود جماعتنا]. وإذا بدا الاهتمام بالنفس ضَرباً من الأنانية، كما كان لي في مرات كثيرة، أعود إذاً إلى مقصده الأصلي: الاعتناء بالذات من المفترض أن يتزامن مع الاهتمام بالجماعة.

وسط البريق المفرِط لصور السيلفي على الانستاغرام المترافق مع الأقوال المنَّمقة، ووقوع قطاع صناعة الاهتمام بالذات بأيدي بيضٍ روَّجوا وروَّجن بطريقة مزعجة لأفكار صارت من المُسَّلَمات من قبيل وجوب أن تتضمن العناية بالنفس اقتناء مرطبات للبشرة سعرها مئة وعشرة دولارات؛ ضاعت فكرةُ ضرورةِ الاهتمام بذاتك للتمكن بصورة أفضل من مواجهة العنصرية الممنهجة المناهضة للسود وانعدام المساواة طبقياً وغياب العدالة السياسية. ثمة كرم مخادع، فالمفهوم اعتمدَه بمكرٍ أشخاصٌ بيض جردوه من معناه الأسود الراديكالي. فحين كتبت أوردي لورد للمرة الأولى عن رعاية الذات والاهتمام بها عام 1988 في مجموع مقالاتها المعنون “انفجار من الضوء”، فإن لورد، الناشطة والشاعرة، كانت تكافح السرطان مع الاستمرار في مزاولة عملها الذي لا يزال يُلهم ويعلِّم حركاتٍ مُقاوِمة. كلنا نعلم الاقتباس العائد إلى لورد الذس يسيطر على صفحات حساباتنا، لقد صار شديد الانتشار بحيث باتَ مجرد كليشيه. لكنّ ما كتبته لورد بالأساس، ومن دون اقتطاع، لا يمكن أن يكون عادياً على الإطلاق. قالت: “كان علي أن أفحصَ، في أحلامي كما في اختبارات المناعة، الآثار المدمرة لتجاوز القُدرات. تجاوزُ قدرات ذاتي ليس مدَّ ذاتي. كان عليّ أن أتقبل مدى صعوبة مراقبة الفارق بينهما. كان ضرورياً لي مثل خفض استهلاك السكر. شديد الأهمية. جسدياً. جسدياً. إن الاعتناء بنفسي ليس انغماساً في الذات. إنه حفاظ عليها، وهذا عملٌ من أعمالِ الحرب السياسية”.  

لا يمكن العناية بالذات أن تكون “عملاً من أعمالِ الحربِ سياسية” إذا كانت المعركة الوحيدة التي تخوضينها هي في وجه الخطوط والتجاعيد التي يُحدِثُها العبوس بمرطِّب ثمنه مئة وعشرة دولارات.

كُتب الكثير عما قصدته لورد في جملتها الأخيرة وماذا تعني تلك الكلمات. ثمة دعوات لاستعادة إحساس العناية بالنفس “كعملِ من أعمال الحربِ السياسية”، وليس كأمر يقوم به الأثرياء في عزلتهم. إنَّ العامل الطبَقي في الاهتمام بالذات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي هو أمرٌ لا تزال النساء السوداوات يناقِشنه منذ وقت طويل. وهو يجب أن يكون في صدارة النقاش. وكما كتبت سارة تايلور في مدونة عنوانها “العناية بالنفس، أودري لورد والحراك الراديكالي الأسود”، فإن نسخة العناية بالذات المفروضة علينا ليست للجميع. “صارَ الاعتناءُ بالنفس مرادفاً للترفيه عنها، بما يعني باختصار إنفاق أموال طائلة للشعور بتحسن طفيف”، كما كتبت. وواصلت آيمولوغي إيروموسيل التوسع في هذه الأفكار، فرأت أن “المشكلة في ما أسميه ‘الجيل الجديد من العناية بالنفس’ هو أنه يستطيع أن يكون ذا محرِّكاتٍ شديدة الرأسمالية ومركِّزاً على رفاهية التدليل، الأمر الذي يكاد لا يتصل إلا قليلاً بالاهتمام الذاتي المُستدام ويتصلُ كثيراً بإنفاق الأموال، وهذا ما لا يمكن بلوغه بالنسبة إلى الجماعات الأكثر حاجة للرعاية!”. وإذ يركِّز “الجيل الجديد من العناية بالنفس” على الفرد بدل الجماعة، فإنه يعزز البنى ذاتها التي كرَّست أودري لورد حياتها لتفكيكها.

في كل مرة أصادف منشوراً يناشد النساء السوداوات “الاهتمام بذواتنا” بطرق سطحية مثل وضع قناع للوجه أو الاستحمام وسط فقاعات الصابون، أشعر أنني أُهاجَمُ شخصياً. حتى إني قد أقول بصوت عال لأي كان من دون تخصيص، “حسناً، هل يمكنك أن تخفض/ي صوتك؟”، وذلك حين يستفزني منشورٌ مماثل. ومردُّ ردة الفعل هذه إلى كوني محظوظة كفاية لاستطاعتي القيام بذلك، لكنني لا أفعل، ولأن العديد من الأشخاص السود لا يتيح لهم النظام أخذ فُسخة من الراحة. وقد غردّت الكاتبة المستقلة جاستِس ناماستي عن النوايا الطيبة ولكن المضلِّلَة التي تقف وراء الدعوة للاهتمام بذواتنا، خصوصاً في ظل الجائحة وما شهده العام الماضي من انتفاضات في وجه العنصرية المناهضة للسود، غرَّدت أنَّ “… التصرفَ كأن هناك الكثير مما يستطيع الفردُ الأسود أن يقوم به لتخفيف وطأة الأذى الجسدي والعقلي الذي يسببُه التهديدُ المستمر لعُنف الدولة، أمر سخيف”. وأضافت :”أنا شديدة التعب [كتبتها بأحرف كبيرة] من العبء الموضوع على كاهل الأشخاص السود بأن عليهم ‘إيجاد سبيل للتعافي’… إنه وقت يتحول فيه مفهوم العناية بالذات إلى أمر عديم الفائدة من دون عناية جماعية بين المجموعة، إنه ليس أمراً يتجاوزه المرءُ بمفرده، وإنه كذلك أمر محطِّمٌ في العزلة”. وكما تضع إيروموسيل الأمر، فإن “حقائق العنصرية لا يمكن تجاوزها، ولا الإنفاق بكثرة للتخلص منها أو طردها بالانغماسِ بالذات، إنها فقط تُعاشُ وتتم مقاومتُها في الوقت نفسه”.

إن مقاربة المقاومة يجب أن تكون مشتركة وإلا سيكون الأكثر ضُعفاً وهشاشة بيننا الأكثر عرضة للأذى. بعد ما حدث العام الماضي وظهور بعض النتائج الكبرى لـ”المحاسبة العرقية” حين صار هناك فرص إضافية لأشخاص سود هم أصلاً في مواقع متقدمة – معظمها كان عمليات توظيف أو ترقية لموظفين/ات سود كانوا [بأحرف كبيرة] أصلاً يستحقونها وسط تقسيمٍ مجحف للثروة لا يمكن إنكاره – لا نستطيع الالتفاف إلى الداخل والتركيز حصراً على عنايةٍ بالنفس تفيد الفردَ فقط. ما الراديكالي في الأمر؟ لا يمكن العناية بالذات أن تكون “عملاً من أعمالِ الحرب السياسية” إذا كانت المعركة الوحيدة التي تخوضينها هي في وجه الخطوط والتجاعيد التي يُحدثها العبوس بمرطِّب ثمنه مئة وعشرة دولارات. إن الاهتمام بالمجموعة والعناية بها هي في استخدام قُوانا وما في متناولنا لدعم مجتمعاتنا وتلبية حاجاتها حين لا يقوم النظام القائم بذلك. علينا أن نسأل أنفسنا عمّا نستطيع فعلَه سياسياً واجتماعياً، وفي علاقاتنا، لمحو الضرر الذي تُحدثُه حكوماتنا ومؤسساتنا في مجتمعاتنا. وإذا بدا ذلك حِملاً كبيراً، ربما كان كذلك حقاً، لكنه يعيدُني إلى جذور الاعتناء بالنفس.

تساءلت لورد عن “الأثار المدمِّرة لتجاوز القدرات” والفرق بين “تجاوز قدرات” ذاتها و”مدِّ” ذاتها. بالنسبة إلي تقع تلك التفرقة في صُلبِ فهمِ المعنى الحقيقي للعناية بالذات. إنها ليست في عدم العمل بجد أو إنكار طموحاتنا الفردية، وحالتنا العقلية أو قيمتنا الذاتية. إنها أن نكون واثقين/ات أننا لا نقيس قيمتنا بحجم إرهاقنا. وفي حالة لورد، فإنها كانت حرفياً تحتضرُ من السرطان حين كتبت تلك الكلمات. وليس من غير المنطقي الافتراض أن تجاوزَها لقدراتها ساهم في تقهقر صحتها، وتالياً وفاتها. علينا استخدام حياة لورد كحكاية تحذيرية. ماذا يقول الأمر عن أميركا إذا كان أحد أكبر العقول السوداء فيها رؤيوية وعبقرية ذوى بينما كان صاحبتُه تقاتل الظروف التي تستنزفُنا وتؤدي بنا إلى الوفاة؟ وكيف يمكننا إيجاد ظروف أفضل لمجتمعاتنا حتى لا يعيد التاريخ نفسه؟

إذ يركز “الجيل الجديد من الاهتمام بالنفس” على الفرد بدل الجماعة، فإنه يعزز البنى ذاتها التي كرَّست أودري لورد حياتها لتفكيكها.

حالياً، وفي خضَّم الجائحة – نعم، إنها محاولةٌ للعودة إلى الحياة الطبيعية لكن الأمر لم ينتهِ بعد – علينا أن نسأل أنفسنا كيف نكون حاضرين/ات من أجل بعضنا البعض حين خذلتنا حكومتنا، بالإهمال في أفضل الأحوال، وبالتعمُّدِ في أسوئها. وجودُ شبكات المساعدة المتبادلة أمرٌ جميل، وإذا كنتَ لا تعلم/ين أين تحدُث في محيطك، الآن هو الوقت المناسب لتحري ذلك. كما هناك الكثير من الموارد المتاحة للعناية بالذات تقودُها نساء ملونات يمكنك مشاركتها مع قبيلتك [المقصود جماعتك]. والمفضلة لدي هي “عِدّة مبتكرة للاحتراق النفسي والتروما” للاريسا فام. ففي نهاية المطاف أظن أن الأمر هو في التطلع حولك والتأكد أن حياتك مدعومة ومستدامة وأنَّ الأشخاص المهمون/ات لديك محميون/ات قدر المستطاع.

من المهم التذكر أنه يمكننا مدُّ أدمغتنا – دفعُها إلى حدودوها القصوى – كما فعلت لورد، وأن نقدمَ مساهمةً فعالة إلى العالم. ولكن ما أن نتبنى تفكيراً رأسمالياً بأن العملَ هو مرادِفٌ لقيمتنا، أو كما غردَّت الدكتورة أومولارا أوويميديمو بأنّ “الانشغال هو شارةُ شرف”، حينها نكون  ضغطنا كثيراً وذهبنا بعيداً. وقد كتبَت أن “الإرهاق ليس علامة امتياز”. واو، ادفعيني بعيداً [من العمل] دكتورة أومولارا. وبالعودة إلى الجدية، فقد أخبرتني عبر الانستاغرام أنها اختبرت الإرهاق إلى حد الإحراق الذاتي مما أدى إلى إصابتها بخلل في جهازها المناعي لأنها لم تدرك “الآثار الجسدية للتفكك [النفسي والعقلي] بينما نواصل محاولة زيادة إنتاجنا على أمل أن يجعلَ ذلك هذا النظام يقدِّرُنا”. يا للراحة. هكذا هو الأمر. إن محافظتنا على أنفسنا ليست انغماساً في الذات حين نوجدُ في نظام يقتُلنا حرفياً وليس مصمَّمَاً على أن تكون أرواحُنا مهمة.

أيٌ من هذا ليس سهلاً. إن العناية بالنفس قد تظهر أحياناً كأمر هائل، لكنها في النهاية روحيةً أكثر من أي شيء آخر. إنها تتطلب تفقداً دائماً للشجاعة، والتزامات بالتفكير بشأن الذات والسيطرة عليها – وربما كذلك تذكيراً على شكل ملاحظات مكتوبة على عضلات بطن مايكل بي جوردان من قِبل أشخاص أنت محظوظ/ة كفاية لأن يكونوا/يكُنَّ في قريتك [المقصود محيطك]. يتطلّبُ الأمرُ راحةً وثورة. ولا يمكنك الحصول على إحداهما دون الأخرى.