
يشهد قطاع غزة مجاعة مصطنعة، ممنهجة، وقابلة للتفادي بالكامل، تودي بحياة الفلسطينيين والفلسطينيات يومياً.
تم الإبلاغ عن أن نحو ٨٥% من سكان غزة دخلوا المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي (المعروفة أيضاً بـ المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي IPC) في أيار/مايو ٢٠٢٥. وهذه المرحلة هي الأخطر، إذ تتسم بحرمان غذائي شديد، ومعدلات مرتفعة من الجوع والموت، وتكون فيها آثار سوء التغذية غير قابلة للعلاج لدى البعض.
وفي بيان مشترك، حذرت وكالات أنباء عالمية مثل “بي بي سي”، “رويترز”، “فرانس برس” و”أسوشيتد برس”، من أن صحفييها في غزة باتوا غير قادرين على تأمين الطعام لأنفسهم ولعائلاتهم، في ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة. ويشكّل الأطفال ما يقارب نصف سكان غزة، وهم الأكثر عرضة للتأثيرات الكارثية للجوع، التي تشمل توقف نمو الأجسام والعقول، ضمور العضلات، ومضاعفات طبية قد تكون قاتلة. كما أن آثار الجوع ليست آنية فحسب، بل طويلة الأمد، حيث تدمّر النسيج المجتمعي، وتدفع الأفراد إلى أفعال مهينة أو عنيفة، لمجرد البقاء على قيد الحياة. فبعض الناجين يُجبرون على اتخاذ قرارات مؤلمة، مثل اختيار أي طفل يطعمون، أو بيع أجسادهم أو أفراد أسرهم مقابل الطعام.
ليست المجاعة في غزة نتيجة كارثة طبيعية أو حدث مفاجئ، بل هي من صنع الإنسان. ووفقاً للخبير البارز في شؤون المجاعات، أليكس دي وال، فإن ما يحدث في غزة هو أكثر حالات التجويع المتعمد “هندسةً ودقةً” منذ الحرب العالمية الثانية، وكان بإمكان إسرائيل منع ذلك في كل مرحلة من مراحل هذه الكارثة. فمنذ ٢ آذار/مارس ٢٠٢٥، فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً على القطاع، مانعة دخول الغذاء والماء والدواء والوقود.
أما المساعدات القليلة التي وصلت إلى غزة، فقد خضعت لرقابة صارمة، وتدفقت بشكل متقطع عبر “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF)، وهي منظمة أميركية تأسست في ولاية ديلاوير في فبراير/شباط ٢٠٢٥ لتتولى توزيع المساعدات في القطاع. يرأس هذه المؤسسة اليوم القس الإنجيلي الأميركي “جوني مور الابن”، المستشار السابق للرئيس دونالد ترامب، والذي تم تعيينه رئيسًا تنفيذيًا خلفًا لـ “جيك وود”، الضابط الأميركي السابق الذي استقال في مايو/أيار ٢٠٢٥، مشيرًا إلى أن المؤسسة لم تعد قادرة على احترام المبادئ الإنسانية الأساسية مثل الحياد وعدم التحيّز.
إن كون المؤسسة تعتمد على توظيف مسلحين ومتعاقدين أمنيين خاصين بدلًا من عمال الإغاثة المهنيين، يكشف عن عسكرة المساعدات وتحويلها إلى أداة ضغط. وقد انتقدت وكالات الأمم المتحدة وعدد كبير من المنظمات الإنسانية الدولية هذه المؤسسة فور بدء عملها، متهمين إياها بتسييس المساعدات وتصميم مواقع توزيعها بطريقة تحوّل الفلسطينيين والفلسطينيات إلى أهداف سهلة للإذلال وسوء المعاملة والعنف المميت. وقد رفضت منظمات مثل برنامج الأغذية العالمي، وأطباء بلا حدود، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، التعاون مع المؤسسة، ونددت باستخدامها للمساعدات كسلاح، وتوزيعها بطريقة غير آمنة ومهينة.
منذ بدء عمل “مؤسسة غزة الإنسانية”، أفادت تقارير موثقة بمقتل أكثر من ١٠٠٠ فلسطيني برصاص القوات الإسرائيلية أو المتعاقدين الأمنيين، أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء. كما تسرّب إلى وكالة الأسوشيتد برس مقطع مصوّر من أحد مواقع توزيع المساعدات، يُظهر مئات الفلسطينيين محتشدين خلف بوابات معدنية، يتدافعون وسط أصوات إطلاق النار. وظهرت أيضًا تسجيلات تُظهر نقاشات بين عناصر الأمن حول تفريق الحشود، وتبادل التهاني بعد إطلاق النار.
إن الوضع الإنساني البالغ الخطورة في قطاع غزة، وفشل الحكومات في وقف هذه الوفيات التي كان بالإمكان منعها، دفع بعض المجموعات والأفراد إلى محاولة التدخل المباشر لكسر الحصار غير القانوني المفروض على غزة.
انطلقت سفينة “مادلين”، ضمن أسطول الحرية، في الأول من يونيو/حزيران ٢٠٢٥، من مدينة كاتانيا الإيطالية، في محاولة لكسر الحصار البحري على القطاع. وفي التاسع من يونيو، اعترضتها القوات الإسرائيلية ومنعتها من الوصول إلى غزة. وقد تم اعتقال النشطاء الـ١٢ على متنها، ومن بينهم الناشطة السويدية “غريتا تونبرغ” وعضوة البرلمان الأوروبي “ريما حسن”، قبل أن يتم ترحيلهم من إسرائيل.
في الوقت ذاته، أُطلقت مبادرة “المسيرة العالمية إلى غزة”، وهي حركة مدنية دولية تهدف إلى السير من مدينة العريش في مصر إلى معبر رفح، بشكل سلمي، لكسر الحصار. إلا أن المنظّمين اضطروا إلى إلغاء المسيرة بعد أن احتجزت السلطات المصرية مئات النشطاء، ورحّلتهم، وداهمت غرفهم في الفنادق، وصادرت جوازات سفرهم. كما وردت تقارير عن صدامات بين المتظاهرين وقوات الأمن المصرية قرب مدينة الإسماعيلية.
وفي ١٣ يوليو/تموز ٢٠٢٥، غادرت سفينة “حنظلة”، وهي جزء من حملة أسطول الحرية، ميناء سيراكوزا في إيطاليا، متجهة إلى قطاع غزة، وهي لا تزال في طريقها حتى اللحظة.
هذه التحركات المدنية التي يقودها الأفراد ما كانت لتُطلق لو أن الحكومات تحمّلت مسؤولياتها وحرّكت جهودها لرفع هذا الحصار الجائر. ومن غير المقبول أن تُقابل هذه المبادرات السلمية بالإفشال من قبل كل من إسرائيل والحكومة المصرية.
المأساة تكمن في أن الغذاء والمساعدات متوفرة. فبحسب وكالة الأونروا، يوجد ما يكفي من الغذاء واللوازم لتلبية احتياجات سكان غزة لثلاثة أشهر، إلا أن إيصالها ما زال مستحيلًا بفعل الحصار الإسرائيلي.
بدلًا من إنهاء سياسة التجويع الجماعي، والضغط على إسرائيل للسماح بدخول الإغاثة، وفرض عقوبات أو حظر أسلحة، أو المطالبة بوقف إطلاق نار فوري وشامل، اختارت بعض الحكومات استهداف كل من يُعبّر عن موقفه الرافض لهذه الانتهاكات.
ففي هذا الشهر، أعلنت إدارة ترامب عن فرض عقوبات على فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام ١٩٦٧، بعد نشر تقريرها الأخير الذي تناول البنية الاقتصادية التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وقام بتسمية شركات محددة تجني أرباحًا من نظام الفصل العنصري والإبادة.
كما سعت الإدارة إلى فرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية، ردًا على إصدار المحكمة مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين بارزين متهمين بارتكاب جرائم حرب في غزة.
كثّفت الحكومة في الداخل الأميركي، ضغوطها على الجامعات لقمع احتجاجات الطلاب ومخيماتهم التي تطالب بسحب الاستثمارات من الشركات المتورطة في الإبادة. وقد تعرّض العديد من الطلاب للعقوبات، بما في ذلك الإيقاف عن الدراسة، وحرمانهم من شهاداتهم. أما الطلاب الأجانب، مثل محمود خليل ومحسن مهدوي، فقد تم اعتقالهم واحتجازهم من قبل دائرة الهجرة والجمارك (ICE)، ووُضعوا في إجراءات الترحيل، على خلفية نشاطهم السلمي في الحرم الجامعي، والذي اعتبرته الحكومة “تهديدًا للأمن القومي”.
في الوقت الذي تعاقب فيه الحكومة الأميركية أي شكل من أشكال التضامن أو النشاط الاحتجاجي الرافض لسياسات إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية، يستمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب للعدالة كمجرم حرب، في زيارة الكونغرس الأميركي، بينما تواصل الولايات المتحدة تقديم دعمها العسكري والسياسي غير المنقطع لإسرائيل
الولايات المتحدة ليست وحدها في قمع التضامن مع الفلسطينيين والفلسطينيات. فألمانيا، ثاني أكبر مزود للسلاح لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، عاقبت بدورها الأفراد والمؤسسات المنتقدة للعدوان الإسرائيلي. ففي أبريل/نيسان ٢٠٢٤، قامت الشرطة الألمانية بإغلاق مؤتمر حول الإبادة الجماعية في برلين، ومنعت دخول شخصيات بارزة مثل الخبير الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس، والطبيب البريطاني-الفلسطيني غسان أبو سِتة. ومؤخرًا، قمعت الشرطة الألمانية تظاهرات حاشدة في برلين كانت تطالب بوقف الإبادة.
في ظل هذا، وفيما يُعاقَب المتضامنون/ات مع الشعب الفلسطيني، يستمر تجويع سكان غزة. وكل يوم يمر دون تحرك دولي، يُزهق المزيد من الأرواح.
هذا الوضع لا يمكن القبول به.
من غير المعقول أنه بعد مرور ٢١ شهرًا على هذه الحرب الوحشية على الشعب الفلسطيني، وبعد أكثر من ٦٠٠٠٠ وفاة – وفقًا لأقل التقديرات – أن تستمر إسرائيل في ارتكاب هذه الجرائم دون محاسبة.
يجب على الحكومة الإسرائيلية السماح الفوري وغير المشروط بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.
ويجب على الولايات المتحدة والدول الأخرى الداعمة لإسرائيل أن تفرض حظرًا على توريد الأسلحة لها، وأن تطالب بوقف فوري وكامل لهذه الوحشية.
إن وقف إطلاق النار الشامل والفوري هو الحد الأدنى، وهو خطوة أولى ضرورية لمعالجة جذور الظلم التاريخي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني – ذلك الظلم الذي لا يمكن أن يتحقق السلام الحقيقي من دونه.